الأمم المتحدة أمام اختبار إنساني وأخلاقي حاسم
في الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، يواجه القادة أزمة إنسانية في غزة تتطلب تحركًا عاجلاً. كيف ستؤثر هذه الكارثة على مستقبل الأمم المتحدة ومبادئها؟ العالم ينتظر ردودكم كحراس للضمير الجماعي.

في الأسبوع المقبل، ستنعقد الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، حيث ستجمع قادة العالم والأوصياء على إنسانيتنا المشتركة.
وبصفتي زميلاً سابقاً وقف ذات يوم بينكم في تلك القاعات والأروقة والمنتديات سعياً إلى السلام ونظام عالمي مستقر، أتوجه إليكم اليوم بنداء عاجل وصادق.
في غزة، يعاني أكثر من مليوني شخص من كارثة تتحدى الإنسانية: عشرات الآلاف من الشهداء معظمهم من النساء والأطفال والمستشفيات والمدارس والملاجئ التي تحولت إلى أنقاض. وفي الوقت نفسه، يُمنع عنهم الطعام والدواء والماء بشكل متعمد.
وقد وجدت لجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة الآن أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة. إن الوضع هناك ليس فقط كارثة إنسانية بل هو حساب أخلاقي للأمم المتحدة، وأفعالك الآن ستقرر شرعيتها وبقاءها.
يأتي هذا الحساب في الوقت الذي يعاني فيه مجلس الأمن الدولي نفسه من الشلل، حيث يحاصره التنافس الخالي من المبادئ بين الدول الخمس الدائمة العضوية. وقد جعل هذا الشلل مهمة الجمعية العامة أكثر أهمية من أي وقت مضى.
ويجب على الجمعية، بوصفها الهيئة التي تمثل أوسع تعبير عن الإرادة الجماعية للبشرية، أن تخرج من ظل المجلس وتتصرف بحزم للحفاظ على كرامة الأمم المتحدة ومصداقيتها وسلطتها.
إنكم تجتمعون في الجمعية العامة لهذا العام ليس فقط كممثلين عن دولكم ولكن كحراس للضمير الجماعي للبشرية. إن العالم يقف اليوم على مفترق طرق خطير.
فالمبادئ التأسيسية للأمم المتحدة الكرامة الإنسانية والمساواة في السيادة والأمن الجماعي تتعرض لهجوم غير مسبوق.
ويبدأ الميثاق التأسيسي للأمم المتحدة بـ إعلان رسمي: "نحن شعوب الأمم المتحدة، وقد عقدنا العزم على إنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب، لنؤكد من جديد إيماننا بحقوق الإنسان الأساسية، وبكرامة الإنسان وقدره، وبالحقوق المتساوية بين الأمم كبيرها وصغيرها".
واليوم، يتم نقض هذا التعهد.
انهيار أخلاقي
تمثل الكارثة في غزة انهيارًا أخلاقيًا يتكشف على مرأى ومسمع من العالم أجمع. وفي الوقت نفسه، هناك تحول مقلق في المواقف العالمية يؤدي إلى تطبيع لغة ومنطق الحرب.
إن القرار الأخير بإعادة تسمية وزارة الدفاع الأمريكية باسم وزارة الحرب ليس مجرد تغيير إداري بسيط، بل هو تغيير ينزع عن وزارة الدفاع التظاهر بالدفاع لتمجيد العدوان.
شاهد ايضاً: البرلمان العراقي يناقش قانونًا يقيد حق التظاهر
يُظهر التاريخ إلى أين يؤدي هذا المسار. قبل الحرب العالمية الثانية، كانت العديد من القوى الكبرى تمجد الحرب علانية: رايخسكريغز مينيستريوم في ألمانيا، ووزير الحرب في إيطاليا، ووزير الحرب في اليابان، ووزير الحرب في فرنسا.
بعد عام 1945، رفض المجتمع الدولي عن عمد هذه العقلية، وغرس الالتزام المعلن بالدفاع بدلاً من الحرب في أسس نظام ما بعد الحرب. إن عكس هذا الإجماع الآن يهدد بتفكيك إطار العمل الهش واستبداله بعالم يسوده قانون الغاب.
إن هذا التحول العسكري نفسه يشجع ويضفي الشرعية على اعتداءات إسرائيل التي لا هوادة فيها من غزة والضفة الغربية إلى لبنان وسوريا واليمن وإيران والآن قطر. وقد تمت جميع هذه الأعمال تقريبًا بموافقة أمريكية مباشرة أو غير مباشرة، مما ينطوي على خطر كبير من اندلاع حريق إقليمي أوسع نطاقًا قد يزعزع استقرار النظام الدولي بأسره.
هذه ليست مجرد أزمة أخرى. إنها اختبار للمبادئ التي تأسست عليها الأمم المتحدة بالنسبة لقادة العالم وللمؤسسة نفسها وللإنسانية جمعاء.
نظام فاشل
لقد صُممت الأمم المتحدة كمنصة محايدة ومستقلة، بعيدة عن تلاعب القوى الفردية أو التحالفات. وتستند شرعيتها إلى ثلاثة مبادئ: المساواة في السيادة بين الأمم، وعالمية الكرامة الإنسانية، والمسؤولية الجماعية عن صون السلام والأمن.
إلا أن هذه المبادئ تتعرض اليوم لتهديد مباشر. فالولايات المتحدة، بصفتها البلد المضيف، رفضت منح تأشيرات دخول للرئيس الفلسطيني محمود عباس ووفده، مما أعاق مشاركتهم في الجمعية العامة. وهذا يشكل انتهاكًا لاتفاقية مقر الأمم المتحدة لعام 1947، التي تكفل دخول جميع الدول الأعضاء دون عوائق.
وفي الوقت نفسه، أدى استخدام حق النقض المتكرر في مجلس الأمن إلى إصابة الأمم المتحدة بالشلل، مما أتاح إنفاذ القانون الدولي بشكل انتقائي وتعميق التصورات حول التحيز المؤسسي.
ويحذرنا التاريخ من العواقب التي تترتب على فشل المؤسسات الدولية في مهامها التأسيسية. فقد انهارت عصبة الأمم لأنها لم تتصرف بحزم عندما واجهت العدوان في منشوريا (1931) والحبشة (1935) وتشيكوسلوفاكيا (1938). لقد أدت الإدانات دون عواقب والتهدئة دون مساءلة إلى وقوع كارثة، وفي غضون عقد من الزمن، انغمس العالم في حرب مدمرة أخرى.
أُنشئت الأمم المتحدة على وجه التحديد لتجنب هذا المصير. فقد أنشئت لضمان الأمن الجماعي وضمان المشاركة المتساوية والعمل كحارس للقيم العالمية وليس كأداة للجغرافيا السياسية.
وإذا فشلت في التصرف بشكل حاسم بشأن غزة، فإنها تخاطر بتقاسم مصير عصبة الأمم المتحدة المتمثل في عدم الأهمية والزوال في نهاية المطاف.
العمل الحاسم
على الرغم من هذه الإخفاقات، فإن التاريخ يبعث الأمل أيضًا.
ففي عام 1988، عندما رفضت الولايات المتحدة الأمريكية منح رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات تأشيرة دخول لمخاطبة الجمعية العامة في نيويورك، تصرفت الأمم المتحدة بشجاعة ومبدأ.
فنقلت الجلسة إلى جنيف، حيث ألقى عرفات خطابه في 13 كانون الأول/ديسمبر من ذلك العام. وأكد هذا القرار الجريء من جديد استقلال الأمم المتحدة المؤسسي ورفضها أن تكون رهينة لسياسات البلد المضيف.
إن روح العزيمة نفسها مطلوبة اليوم.
وإذا ما مُنع الممثلون الفلسطينيون من الدخول مرة أخرى، فينبغي أن تنقل الجمعية العامة أعمالها إلى جنيف أو إلى مكان محايد آخر لضمان الشمولية والإنصاف.
وفي الوقت نفسه، يجب اتخاذ خطوات حاسمة لحماية المدنيين في غزة واستعادة مصداقية النظام الدولي.
وهذا يتطلب عقد جلسة استثنائية طارئة في إطار "الاتحاد من أجل السلام" لتجاوز الشلل الذي أصاب مجلس الأمن؛ وإنشاء ممر إنساني تحت إشراف الأمم المتحدة لتأمين تدفق الغذاء والدواء والمياه النظيفة؛ وضمان حماية القوافل الإنسانية والمرافق الطبية والمبادرات المدنية في البحر، بما في ذلك الأساطيل مثل بعثة الصمود؛ ودعم التحقيقات المستقلة في الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني، بحيث لا تتأخر المساءلة من خلال محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية والآليات الأخرى إلى أجل غير مسمى.
وبينما تتواصل هذه الجهود، ألاحظ انتخاب أنالينا بايربوك رئيسة للجمعية العامة في دورتها الثمانين. إن التحديات الماثلة أمامها هائلة، ومعها تأتي مسؤولية إظهار القيادة المبدئية. وأتقدم إليها بأطيب تمنياتي لها بالنجاح في اجتياز هذا الاختبار في لحظة لا يتطلب فيها التاريخ أقل من ذلك.
إن التاريخ لن يحكم علينا بتصريحاتنا بل بأفعالنا وبصمتنا.
تمثل المأساة الإنسانية في غزة وتآكل المعايير الدولية تحدياً وجودياً لإنسانيتنا الجماعية. وإذا فشلت الأمم المتحدة في التصرف بحزم، فإنها ستزيد من المعاناة وستعجل بانهيار النظام العالمي الذي أنشئت من أجل حمايته.
أيها القادة الموقرون، أناشدكم بإلحاح أخلاقي عميق: لا يمكن لغزة أن تنتظر. ولا يمكن للبشرية أن تنتظر. إن التاريخ لن يغفر التأخير.
بالأمل والتصميم أحمد داود أوغلو رئيس وزراء تركيا السابق
أخبار ذات صلة

محمود عباس: حماس لن تحكم غزة بعد الحرب خلال اجتماع مع توني بلير

سوريا بعد الأسد: الفائزون حتى الآن هم تركيا والغرب

غارات إسرائيلية تقتل العشرات في غزة خلال 48 ساعة
