إلغاء الإعفاء المصرفي يهدد الاقتصاد الفلسطيني
إلغاء الإعفاء المصرفي الإسرائيلي يعمق الأزمة الاقتصادية الفلسطينية، ويزيد الضغط على البنوك ويهدد السيولة. هذا التحول يأتي في سياق تصعيد الحرب الاقتصادية ضد الشعب الفلسطيني ويدفع نحو بدائل سياسية جديدة.

إن الخطوة التي اتخذتها إسرائيل مؤخراً بإلغاء الإعفاء الذي يتيح التعاون بين البنوك الإسرائيلية والفلسطينية ليست مجرد إجراء بيروقراطي. إنها مناورة محسوبة تضرب الأساس الاقتصادي للسلطة الفلسطينية والأراضي المحتلة ككل.
يجب أن يُنظر إلى هذا التحول في السياسة على أنه جزء من حملة أوسع نطاقًا لتقويض ما تبقى من الاستقلالية المؤسسية الفلسطينية. كما أنه رد عقابي على اللوم الدولي، بما في ذلك العقوبات التي تقودها المملكة المتحدة على الوزراء الذين يحرضون على عنف المستوطنين.
ومنذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، حظرت إسرائيل بالفعل التدفقات النقدية إلى البنوك في غزة، والتي علقت معظمها خدماتها. ويؤدي إلغاء إطار التعويضات إلى تعميق هذا الحصار المالي.
شاهد ايضاً: الولايات المتحدة ضغطت على تركيا وإسرائيل لعقد محادثات لتخفيف التوترات العسكرية بشأن سوريا
هناك بنكان إسرائيليان فقط، هابوعليم وديسكونت، يحافظان على علاقات مصرفية بالمراسلة مع البنوك الفلسطينية. ويمكّن هذا الإعفاء هذه البنوك الإسرائيلية من تعويض البنوك الأجنبية التي تعالج المدفوعات نيابةً عن المؤسسات الفلسطينية؛ ويؤدي إلغاؤه فعليًا إلى فصل النظام المصرفي الفلسطيني عن الشبكات المالية العالمية.
إن مركزية المؤسسات المالية الإسرائيلية في بنية الحياة الاقتصادية الفلسطينية ليست عرضية. فبموجب بروتوكول باريس لعام 1994، وهو اتفاق فرعي من اتفاقات أوسلو، يرتبط الاقتصاد الفلسطيني بالشيكل الإسرائيلي، حيث تعمل إسرائيل كحارس وعقبة في آن واحد للتجارة والإيرادات الضريبية والمعاملات النقدية.
ويُعد الإعفاء المصرفي ضروريًا للحفاظ على السيولة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولا سيما من خلال تحويل الشيكل الذي تراكمه البنوك الفلسطينية عبر التجارة المحلية إلى إسرائيل. ومن شأن تعليق هذا الإعفاء أن يجمّد التدفقات المالية الحيوية، مما قد يؤدي إلى خطر عدم الاستقرار النظامي في القطاع المصرفي الفلسطيني.
وقد جاء هذا التحول في سياسة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش في أعقاب قرار المملكة المتحدة بفرض عقوبات عليه وعلى إيتمار بن غفير، وهو وزير إسرائيلي متطرف آخر متورط في تأجيج العنف في جميع أنحاء الضفة الغربية المحتلة. وبدلاً من أن تنأى الحكومة الإسرائيلية بنفسها عن هذه الشخصيات، كان رد الحكومة الإسرائيلية هو تصعيد حربها الاقتصادية ضد الشعب الفلسطيني.
يتمثل مشروع سموتريتش الأيديولوجي في تفكيك السلطة الفلسطينية تدريجيًا مع تعزيز طموحات الضم والتوسع الاستيطاني، وغالبًا ما يكون ذلك تحت ستار الإجراءات التنظيمية.
ويعكس إعلان بعض مشايخ الخليل مؤخرًا التخلي عن السلطة الفلسطينية والسعي إلى الاندماج في اتفاقات إبراهيم أزمة الشرعية المتزايدة التي تعاني منها القيادة الفلسطينية. ومع تعمق الاحتواء المالي، يجري العمل على صياغة بدائل سياسية لأوسلو ليس من خلال الدبلوماسية، بل من الألف إلى الياء.
ويؤكد عرض المشايخ الاقتصادي وتبنيهم للمشروع المشترك مع إسرائيل كيف أن الشلل المالي يحفز التيارات الانفصالية داخل الضفة الغربية المحتلة.
الضغط الحاد
سوف تكون عواقب القرار المصرفي عميقة إذا لم يتم إلغاؤه وسط ضغوط خارجية. فبدون القدرة على تحويل فوائض الشيكل إلى المقاصة الإسرائيلية، تواجه البنوك الفلسطينية خطر تجاوز حدود السيولة لديها.
ومن شأن هذا التجاوز أن يعرقل عمليات البنوك المحلية ويحد من قدرتها على إصدار القروض أو دفع الرواتب أو إجراء مدفوعات عبر الحدود للواردات. وعلى الرغم من أن سلطة النقد الفلسطينية قد نفت علنًا الشائعات التي تتحدث عن انهيار مصرفي وشيك، إلا أن بياناتها الخاصة تقر بالضغوط الحادة التي تواجه القطاع.
وبالفعل، يُبلغ العديد من الفلسطينيين عن معاناتهم في الحصول على الدولار والسحب من البنوك المحلية، مما يخلق سوقًا سوداء للعملة مع تزايد ندرة العملة. وتزيد الأزمة الحالية من حدة هذا النقص في السيولة بالدولار، مما يعمق الاعتماد على السلطة التقديرية التنظيمية الإسرائيلية.
إن فائض الشيكل ليس أزمة جديدة. بل هو عرضٌ مزمن لترتيب اقتصادي مشوَّه، حيث لا تستطيع السلطة الفلسطينية إصدار عملتها الخاصة، وتفتقر إلى السيطرة السيادية على حدودها، وتعتمد في عملياتها المالية على قوة احتلال معادية. إن المأزق الحالي يؤكد الاستحالة الهيكلية للسيادة المالية الفلسطينية في ظل إطار أوسلو غير المتماثل.
فقد خلقت عقودٌ من الاعتماد على المعونة والاحتواء المالي اقتصادًا سياسيًا مشوهًا يكافئ الاستقرار على حساب السيادة. وقد ساعد وهم الحوكمة الاقتصادية في ظل الاحتلال على تحصين إسرائيل من رد الفعل السياسي العنيف، بينما أسندت توفير الخدمات إلى سلطة ممولة من المانحين دون سيادة مالية حقيقية.
وعلى الرغم من أن تطمينات سلطة النقد الفلسطينية مفهومة من الناحية المؤسسية لمنع حدوث تهافت على البنوك، إلا أنها لا تخفي الحقيقة الأساسية. تعمل البنوك الفلسطينية ضمن نظام مالي مصمم ليكون غير مستقر بشكل دائم.
فهي ليست محصنة ضد التحولات القسرية في السياسة الإسرائيلية، كما أنها ليست محصنة من المجتمع الدولي المستعد لفرض الحماية الاقتصادية والمالية لشعب عديم الجنسية.
ولا تزال الاستجابة الدولية حتى الآن فاترة. وفي حين أن العقوبات التي فرضتها المملكة المتحدة على الوزراء الذين يمارسون العنف هي خطوة رمزية، إلا أنها تفشل في معالجة الروافع المادية التي تُخضع السياسة الإسرائيلية الاقتصاد الفلسطيني من خلالها. وتوجد آليات قانونية للتصدي لهذه الممارسات، ولا سيما من خلال الأطر التي تحظر الإكراه الاقتصادي والعقاب الجماعي بموجب القانون الدولي الإنساني. غير أن هذه الأدوات لا تزال غير مستغلة سياسيًا.
ويمثل تحول المملكة المتحدة وفرنسا من السعي إلى الاعتراف الفوري بالدولة الفلسطينية إلى مجرد المطالبة بمسار موثوق نحو هذا الهدف تراجعًا في الجرأة السياسية. ومع ذلك، فإنه لا يزال يشكل ثقلًا دبلوماسيًا موازنًا لاستراتيجية الاحتواء المالي التي طرحها سموتريتش.
إعادة التقويم المالي
يمكن للمؤتمر المزمع عقده في نيويورك (الذي كان من المقرر عقده في البداية في حزيران/يونيو، ثم تأجل إلى أجل غير مسمى)، والذي يربط جدول أعماله صراحةً بين الاعتراف بالإصلاحات المؤسسية داخل السلطة الفلسطينية وغيرها من التدابير، أن يتحدى حملة الإكراه الاقتصادي الإسرائيلية من خلال إعادة صياغة الاعتراف كإعادة تقويم سياسي ومالي. ويمكن لمبادرةٍ كهذه أن ترسِّخ قيام الدولة في إطار من الضمانات الدولية والتحول الهيكلي للسلطة الفلسطينية، مما يوفر بديلًا ممكنًا لنموذج التبعية المستمد من أوسلو.
غير أن الشروط المسبقة تشمل تفكيك حكم حماس الموازي. وقد رفضت حماس نزع سلاحها ولم تلتزم الولايات المتحدة ولا إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية، مما يثير تساؤلات حول احتمال نجاح مثل هذه الجهود.
إذا اكتسبت أجندة الاعتراف زخمًا، فقد توفر سقالات لهيكل مالي جديد، بدعم من الجهات الفاعلة الإقليمية والأوروبية، يتحدى احتكار إسرائيل للنظام المالي الفلسطيني. كما يمكن لأعضاء مجموعة "بريكس"، بما في ذلك الصين وروسيا، أن يساعدوا أيضًا في أنظمتهم المالية الناشئة.
إلغاء الدولرة، كما دعت إليه سلطة النقد الفلسطينية PMA. يُمثل التخلي عن الدولرة إحدى هذه الاستراتيجيات للحد من الهشاشة. ومن خلال تقليل الاعتماد على السيولة الدولارية وتعزيز أنظمة الدفع الرقمية المحلية والتجارة بالعملات الوطنية، يُمكن أن يُسهم التخلي عن الدولرة في حماية الاقتصاد الفلسطيني من صدمات أسعار الصرف الأجنبي والضغوط التنظيمية الخارجية. لكن هذا يتطلب دعمًا دوليًا قويًا لإنشاء ترتيبات مقاصة بديلة، وتأمين مشاركة إقليمية، وتطوير بنية تحتية مالية رقمية مترابطة.
ما نحتاجه الآن ليس مجرد إدارة الأزمة، بل إعادة التفكير الجوهري في الاستراتيجية الاقتصادية والمالية الفلسطينية. وهذا يستلزم تجاوز لغة "الصمود" الجوفاء ومعالجة العوائق الهيكلية التي تحول دون السيادة من خلال إعادة تأكيد الحق الفلسطيني في السياسة النقدية، واستكشاف بدائل للاعتماد على الشيكل الإسرائيلي، وبناء تحالفات إقليمية ودولية يمكنها أن توفر قنوات مالية بديلة.
شاهد ايضاً: هل يتبنى ترامب نهجًا متحفظًا تجاه طهران؟
قد يكون للخطوة الأخيرة التي اتخذها سموتريتش عواقب غير مقصودة. فمن خلال محاولة معاقبة السلطة الفلسطينية والرد على العقوبات الأوروبية، ربما تكون إسرائيل قد حفزت عن غير قصد إعادة تقييم أوسع لنظام أوسلو الاقتصادي.
إن الإجماع التكنوقراطي الذي كان يحافظ على تماسك الهيكل المالي لأوسلو آخذٌ في التلاشي. ويتعين الآن على صانعي السياسات والمجتمع المدني وشبكات الشتات الفلسطينية أن يصوغوا رؤيةً اقتصادية ومالية متماسكة متجذرة في إنهاء الاستعمار وليس التبعية.
إن الأزمة المصرفية الحالية ليست صدمةً مفاجئة، بل هي نتيجة منطقية لعملية احتواء اقتصادي طويلة الأمد.
إن كل تمزق مالي، سواء في إيرادات المقاصة، أو في الأنظمة المصرفية أو التدفقات التجارية، هو تذكير بأن الحوكمة الاقتصادية في ظل الاحتلال لا يمكن أن تكون محايدة أو تكنوقراطية. إنها ساحة من ساحات القوة، ساحة تعمل فيها السيطرة على المال كسيطرة على حياة الفلسطينيين.
يتطلب كسر هذه الحلقة أكثر من مجرد إصلاحات تقنية. فهو يتطلب قطيعةً سياسيةً مع نموذج أوسلو الاقتصادي، وتأكيد استراتيجيةٍ تستعيد حق الفلسطينيين في تحديد شروط اقتصادهم ونظامهم المالي.
فالتكنولوجيات والمقترحات المالية الجديدة في الاقتصاد العالمي اليوم توفر سبلاً محتملة للاستكشاف. لم تعد الرهانات تتعلق بالنمو أو الإصلاح. بل تتعلق بالتحرير والبقاء.
أخبار ذات صلة

أعلى مستوى لاعتداءات المستوطنين الإسرائيليين في 2024 منذ بدء الأمم المتحدة تسجيل الحوادث

تزايد القلق لدى العلويين بسبب التضليل الإعلامي مع استمرار ملاحقة الموالين للأسد في سوريا

وقف إطلاق النار في لبنان: ماذا بعد لمحور المقاومة؟
