البابا فرنسيس صوت الأمل لفلسطينيي غزة

كانت آخر مرة اتصل فيها البابا فرنسيس بفلسطينيي غزة وباركهم قبل يومين من وفاته في 21 أبريل/نيسان. وقد أُقيمت جنازته يوم السبت في كاتدرائية القديس بطرس، واستقطبت مشيعين من جميع أنحاء العالم.

منذ أن شرعت إسرائيل في حملة الإبادة في غزة في أكتوبر 2023، حافظ البابا - على عكس غالبية القادة الغربيين المتواطئين في الإبادة الجماعية - على اتصال وثيق وثابت بالفيديو مع الفلسطينيين المستعمرين.

وقدّم صلواته وتشجيعه وتضامنه مع المجتمع المسيحي الصغير في غزة ومع السكان المحاصرين على نطاق أوسع.

كان صوتًا غربيًا وحيدًا في الدفاع عنهم، وقد تم نعيه في غزة بحزن عميق حتى في الوقت الذي يحتفل فيه البعض في إسرائيل بوفاته.

في أشهره الأخيرة، أصبح البابا الأرجنتيني أكثر إدانة لحرب إسرائيل على الشعب الفلسطيني. فقد شجب إبادتها للمدنيين في غزة، الذين قُتل منهم عشرات الآلاف، ووصف جرائمها بصراحة: "هذه وحشية، هذه ليست حربًا."

وفي تدشين مشهد المهد وشجرة عيد الميلاد في ديسمبر الماضي في ساحة القديس بطرس، عرض طفلاً رضيعًا ملفوفًا في كوفية تضامنًا مع الفلسطينيين.

وفي وقت سابق من عام 2024، كتب: "وفقًا لبعض الخبراء، فإن ما يحدث في غزة له خصائص الإبادة الجماعية. وينبغي التحقيق فيه بعناية لتحديد ما إذا كان ينطبق عليه التعريف الفني الذي صاغه الحقوقيون والهيئات الدولية."

في الشهر الماضي، وبعد أن استأنفت إسرائيل حرب الإبادة الجماعية، أعرب البابا عن قلقه مرة أخرى: "أشعر بالحزن لاستئناف القصف الإسرائيلي العنيف على قطاع غزة، مما تسبب في سقوط العديد من القتلى والجرحى. إنني أدعو إلى وقف فوري للأسلحة؛ وإلى التحلي بالشجاعة لاستئناف الحوار، حتى يتسنى إطلاق سراح جميع الرهائن والتوصل إلى وقف نهائي لإطلاق النار".

تغيير العلاقات

لقد تغيرت علاقات الفاتيكان مع الشعب الفلسطيني بشكل كبير خلال الألفية الماضية.

فالبابا فرانسيس بعيد كل البعد عن البابا أوربان الثاني الذي أعلن في نوفمبر 1095 ضرورة غزو فلسطين من خلال إطلاق الحملة الصليبية الأولى. فقد أعلن البابا الصليبي مخاطبًا الأوروبيين الذين اعتنقوا الديانة المسيحية الفلسطينية

ادخلوا على الطريق إلى القبر المقدس، وانتزعوا تلك الأرض من الجنس الشرير وأخضعوها لأنفسكم... هذه المدينة الملكية الواقعة في وسط العالم هي الآن أسيرة بيد أعدائه، وهي خاضعة للذين لا يعرفون الله، لعبادة الوثنيين. لذلك فهي تسعى وترغب في أن تتحرر ولا تكف عن التوسل إليكم أن تأتوا لمساعدتها. إنها تطلب منكم على وجه الخصوص العون.

وبما أن غالبية سكان القدس الأصليين في ذلك الوقت كانوا مسيحيين ناطقين بالعربية، أو ما أطلق عليه الصليبيون اسم "السريانيين"، فقد سعى البابا أوربان إلى "إنقاذهم" من المسلمين، على الرغم من أنه لم يسبق أن اشتكى أو ناشد أي مسيحي شرقي إلى البابوية طلباً للمساعدة.

في المقابل، لم يسعَ البابا فرنسيس إلى غزو الفلسطينيين، بل سعى إلى حماية مسيحيي غزة الفلسطينيين والمسلمين من الغزو الإسرائيلي والإبادة الجماعية.

في القرن السابع عشر، شمل مشروع الفاتيكان التبشيري الجديد، المعروف باسم "الدعاية في العقيدة"، فلسطين.

زار كاهن ألماني يُدعى دومينيكوس جرمانوس دي سيليزيا فلسطين لتعلم اللغة العربية وأعاد ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة العربية، وقد نشر من قبل الفاتيكان في عام 1671 - تعود الترجمات العربية للكتاب المقدس إلى القرن الثامن على الأقل، عندما تحول معظم المسيحيين واليهود في سوريا وفلسطين ومصر من الآرامية والقبطية إلى العربية. ومع ذلك، ظل النشاط التبشيري محدوداً.

غير أن بطريركية القدس اللاتينية، التي أنشأتها الحملات الصليبية في عام 1099 وتم تفكيكها بعد الطرد النهائي للصليبيين الفرنجة في عام 1291، أعيد تأسيسها في فلسطين في عهد العثمانيين في عام 1847.

إحياء اللاتينية

مع إحياء البطريركية اللاتينية، ازدادت الجهود التبشيرية الفرنسية أيضًا. فبالإضافة إلى التبشير للمسيحيين العرب في سوريا وفلسطين في القرن السابع عشر، كان الهدف أيضاً حث الكنائس الكاثوليكية الشرقية على قبول سلطة البابا على كنائسهم.

وكانت أنشطة التبشير التي قام بها المبشرون نيابة عن الكنيسة اللاتينية أكثر نجاحًا مع بعض الأرثوذكس الفلسطينيين التجار.

وفي أعقاب حرب القرم، ازدادت المدارس اللاتينية والجمعيات الخيرية التي يرعاها الفرنسيون على قدم وساق، بما في ذلك مدارس "سيدات القديس يوسف" و"سيدات القديس فنسنت دي بول" و"سيدات المحبة".

تأسست مدرسة كلية الفرير لأول مرة في القدس عام 1875، مما يعكس التأثير المتزايد للتعليم الكاثوليكي الفرنسي في فلسطين. وعلى الرغم من أن عائلتي مسيحية أرثوذكسية، إلا أن والدي التحق بفرع كلية الفرير في يافا قبل النكبة، ثم التحقتُ بفرعها في عمّان بعد النكبة.

في الفترة الحديثة، وتحديدًا بعد نجاح الحملة الصهيونية الصليبية في احتلال فلسطين وإقامة دولة إسرائيل عام 1948، تذبذب موقف البابوية.

لم يقم البابا بولس السادس، وهو إيطالي تولى الحكم من 1963 إلى 1978، بزيارة القدس الشرقية التي كانت تحت سيطرة الأردن آنذاك، إلا في كانون الثاني/يناير 1964 حيث أمضى بضع ساعات في الناصرة (التي حددتها خطة التقسيم التي وضعتها الأمم المتحدة عام 1947 كجزء من الدولة الفلسطينية، لكن إسرائيل تحتلها منذ عام 1948).

وقضى بقية زيارته التي استغرقت يومين في الأردن. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يزور فيها بابا الفاتيكان فلسطين. في ذلك الوقت، لم يعترف الفاتيكان بإسرائيل.

تحول دبلوماسي

لم يقم الكرسي الرسولي علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل إلا بعد استسلام منظمة التحرير الفلسطينية للمستعمرة الاستيطانية بتوقيع اتفاقات أوسلو في سبتمبر 1993، ثم تبادل السفارات في يناير 1994.

في آذار/مارس 2000، قام البابا يوحنا بولس الثاني اليميني البولندي اليميني المعادي للشيوعية المتحالف مع إدارة رونالد ريغان الأمريكية بزيارة إسرائيل، حيث قام بجولة في متحف ياد فاشيم للمحرقة اليهودية وصلى عند حائط البراق المعروف لدى الفلسطينيين.

كما سافر إلى بيت لحم، حيث استقبله زعيم منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك ياسر عرفات بحرارة. أمضى يومًا واحدًا فقط في الضفة الغربية، حيث أقام قداسًا في ساحة المهد. قال عرفات لجون بول في حفل استقبال رسمي مع القادة الفلسطينيين والدبلوماسيين ورجال الدين: "مرحبًا بك في أرضنا".

بعد تسع سنوات، في أيار/مايو 2009، وصل البابا الألماني بنديكتوس السادس عشر - الذي كان في سن المراهقة انضم إلى شبيبة هتلر وخدم لاحقًا في الجيش الألماني - في جولة في الأردن وإسرائيل والضفة الغربية.

وخلال زيارته لإسرائيل، حيث تحدث البابا عن أهوال وجرائم بلده ألمانيا، دعا البابا الإسرائيليين والفلسطينيين إلى "العيش بسلام في وطن خاص بهم ضمن حدود آمنة ومعترف بها دوليًا".

وبعد خطابه في حفل بين الأديان في القدس الشرقية، أمسك تيسير التميمي، رئيس المحاكم الشرعية الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة، بالميكروفون وانتقد إسرائيل باللغة العربية وسط تصفيق الكثيرين من الحضور. لم يصدر عن البابا أي رد فعل، لكن الفاتيكان أصدر بيان إدانة، وقال في بيان له إن "هذه المداخلة كانت نفيًا مباشرًا لما يجب أن يكون عليه الحوار".

أثناء تواجده في بيت لحم، انتقد بنديكتوس جدار الفصل العنصري الإسرائيلي وأعرب عن دعمه للفلسطينيين في غزة، الذين تعرضوا للتو لهجوم قاتل من قبل إسرائيل أسفر عن مقتل أكثر من 1400 شخص.

وكما هو متوقع، كانت إسرائيل مرعوبة. قدم الحبر الأعظم نقشًا بارزًا كبيرًا لـ شجرة يسى، منحوتة من قبل الفنان البولندي تشيسلاو دزويجاي، إلى كنيسة المهد كهدية للفلسطينيين في بيت لحم.

التضامن مع فلسطين

عندما زارها البابا فرانسيس في عام 2014، قام بـ توقف غير مقرر عند جدار الفصل العنصري بين بيت لحم والقدس.

ووفقًا لسائقه، كانوا يقودون سيارتهم بالقرب من جزء من الجدار مغطى بكتابات تقارن بين بيت لحم وغيتو وارسو، عندما طلب البابا السماح له بالخروج.

إن صورته وهو يصلي في تلك البقعة "أثارت الفلسطينيين وأغضبت الإسرائيليين".

في آخر رسالة علنية له في عيد الفصح، تحدث البابا فرنسيس مرة أخرى تحدث ضد الحرب على الشعب الفلسطيني ومعاناة الفلسطينيين في غزة، الذين تقوم إسرائيل حاليًا بتجويعهم من خلال منع دخول جميع الإمدادات الغذائية إليهم: "أفكر في شعب غزة، ومجتمعها المسيحي على وجه الخصوص، حيث يستمر الصراع الرهيب في التسبب بالموت والدمار وخلق وضع إنساني مأساوي ومؤسف".

إن وفاة البابا فرنسيس الذي لم يكف عن الاهتمام بالفلسطينيين، أكسبته شماتة إسرائيل الرسمية التي نددت بمعارضته للإبادة الجماعية التي ترتكبها.

فقد قامت وزارة الخارجية الإسرائيلية بحذف منشورات التعزية بالبابا الراحل من حسابها الرسمي على موقع التواصل الاجتماعي (تويتر)، ووجهت بعثاتها حول العالم للقيام بالمثل. كما أصدرت أمرًا داخليًا للسفراء بعدم التوقيع على دفاتر التعازي في سفارات الفاتيكان.

ولم يرسل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أي رسائل تعزية رغم أن الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، الذي لا يعدو كونه منصبًا فخريًا وشرفيًا، قد فعل ذلك.

ولكن على الرغم من كل دعمه لشعب غزة الذي يواجه آلة الإبادة الجماعية العسكرية الإسرائيلية، لم يفرض البابا فرانسيس أي عقوبات على إسرائيل.

لم يطرد السفير الإسرائيلي من الفاتيكان، ولم يسحب سفير الفاتيكان من إسرائيل. ولم يفكر حتى في تعليق العلاقات الدبلوماسية، على الرغم من أن دولًا مثل كولومبيا وبوليفيا وهندوراس وبليز وتشيلي وتشاد وتركيا والبرازيل وجنوب أفريقيا سحبت سفراءها أو بعثاتها الدبلوماسية بأكملها.

ومهما كان الدعم الذي كان من الممكن أن يقدمه الحبر الأعظم للفلسطينيين بلمسته الشخصية لم يُترجم أبدًا إلى المجال الدبلوماسي.

وعلى الرغم من تعاطفه الشخصي مع الفلسطينيين، ظل البابا فرانسيس في نهاية المطاف مقيدًا بالبنى السياسية الغربية التي دعمت لقرون طويلة الغزو والاستعمار. قد يحزن الناجون في غزة على وفاته، لكن المؤسسات التي مكّنت من إبادتهم المستمرة لا تزال قائمة.